التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مارد الإبداع

في غفوة روحية اطل على مشارف أعماقه وسبر أغوارها البعيدة . وأغراه الفضول على استجلاء غموضها ، فأوغل في النزول وهو يتوجس خيفة مما قد يحتوية قاعها  . ثم استمر في الولوج حذراً حتى قارب على بلوغ قاعها المجوف ، وقبل أن تلامس قدميه ارضيتها القي بنظرة على موضع نزوله فرأى ما طمئنه على صلابة الأرضية . فحط عليها فإذا هي أرض حريرية الملمس . . ثم تساوى قائماً وأرخى أعصابه حتى هدئ زفيره وشهيقه ، وأخذ يتلفت يميناً وشمالاً ليتأكد من خلو المكان من غيره ثم خطى أولى خطواته باتجاهات عشوائية كأنه طفل يتعلم المشي ويحاول ان يكتشف خبايا المكان بسرعة ويعود من حيث أتي ، وبينما هو كذلك إذ لاح له من بعد ضوئاً يتلألأ من ألوان عدة . . فمشي باتجاهه واقترب منه بخطوات مرتجفة فإذا هو قمقم جميل المظهر . . خافي الجوهر فالتقطه فرحاً به  واخذ يملئ النظر به ويتلقفه بين يديه مسروراً كأنه وجد ما يكافئ به همته واستمر في تجواله في دهاليز القاع عله يجد أحس منه أو مثله فلم يجد ما يصرف نظره عنه . . ثم استعد للعودة إلى مكان هبوطه . وقبل أن يعرج عائداً الى عالم اليقظة حدثته نفسه بما في هذا القمقم الجميل . . لابد أنه كنز ثمين ! 

- لماذا لا أفتحه ؟ .
- حاول فتحه لكنه لم يفلح في أول محاولة . 
 وأعاد المحاولة تلو الأخرى ، وكلما تلبدت سماء محاولاته بسحب اليأس هبت عليها رياح الأمل فاجتاحتها ، وبعد عدة محاولات مجهدة نجح في اقتلاع غطائه النحاسي فانبثق من فوهته دخان يميل إلى الزرقة أخذ في الكثافة شيئاً فشيئاً حتى حجب رؤيته عما فوقه وسرعان ما تشكلت به ملامح مارد طويل القامة . . كبير الهامة ، هاله رؤيته وأرهبه وأخذ يرتعش ويتصبب عرقاً مبهوتاً بمصيبته التي جناها على نفسه . . وما أن اكتملت ملامح المارد حتى انتفض كأنه طير بلله المطر . . وأخذ يوزع نظراته على من حوله فرأى منقذه يرتعش ارتعاشة من ينتظر لحظة حتفه الدانية . 
فسأله : من أنت ؟
فأجابه بصوت متقطع : 
أنا . . أنا الذي انقذك وأخرجك من هذا القمقم النحس . 
- ومن أتى بك إلى هنا ؟ 
لقد أحسست بقوة تدفعني لنجدتك فاستجبت لها . . ولك . 

وحينها تبسم المارد وهدئ من روعه وهلعه وشكره على صنيعه ثم قال : لا تخف من صورتك في مرآة روحك . . فما أنا إلا شخصك الخيالي الذي تصل به ما لا تستطيع ان تصله بشخصك الحقيقي . 
وهنا جرت الدماء في عروقه بعد أن كادت تجف وسأله
 ـ هل أتشرف بمعرفتك أكثر ؟ 
: حسناً أنا جزء منك ونحن وجهين لعملة واحدة هي الإبداع ومن فقدني بقي متذوقاً للإبداع فقط ، ومن وجدني شاركني انتاج الاعمال الابداعية . . 
نحن يا صديقي الطهاة . . وهم الأكلون ! 
ـ لم أفهم ما تقول ؟ 
- يابن آدم . . أنا الذين تسمونني قرين - من قصر فهمكم بكينونتي - وما أنا إلا مثل ما ذكرت . 
ـ أهلاً . . أهلاً . . بسيد الشعر والأدب والفن . . 
أهلاً بمن طال انتظاره . . 
هيا معي إلى عالمي الخارجي لأستضيفك هناك . . واحتفل بك احتفالا يليق بمقامك . 
المارد : شكراً على كرمك ، ولكني لا استطيع الخروج إلى عالمكم . . آن مناخه لا يروق لي . . أخرج أنت إن أردت . . أما أنا فإني مرتاح في هذا الجو الأثيري ولا استطيع ان استغني عنه ولو لحظات . . ولكن لا تنساني وقت ضيقك فأنا كالأنا الذي تصب به عرق ذهنك فأشكله لك تشكيلاً إبداعياً رائع . . ثم تخرج به بعد ذلك إلى الملأ وتتباهى به أمامهم . . لكن . . حذار . . حذار من الغرور بأعمالك فكم أهلكت قبلك من مبدعين . . وتأكد أن هذا أقل ما يمكن أن أقدمه لك جزاء إخراجك لي من القمقم الذي كدت ان أقضي به العمر كله . . 
عفواً . . لم استوعب عملية التشكيل . . 
- هل تتكرم بالتوضيح ؟ 
ـ نعم . . 

أنا لدي قدرة إبداعية بإمكانك التعبير بها حسب اتجاهك في حياتك . . ان شئت بالفن وإن شئت في الأدب . . وإن شئت بالشعر ، وان كان لك ميول مهنية او حرفية او الذي تريد ان تكون ، انا الموهبة  ولكن في أي اتجاه تريدني . . لا بد أن تكون لديك إرادة قوية وثقافة كافية حتى أتمكن من اتقان عملي وبالتالي نحصل سويا على ما نريد .

 « وهنا فهم صاحبنا كينونة ماردة ووظيفته وأخذ في إبراز مخزونه الثقافي في شتى الآداب والمعارف والمارد منصت له . . ومضى في إظهار ما علق في ذاكرته من روائع القصص والقصائد حتى أقنع مارده بأنه مؤهل لهذه المهمة العظيمة » . 
ثم سأله المارد : ماذا تريد ان تكتب الآن ؟ فأجابه صاحبه منتشياً : أريد أن نكتب قصيدة ، وأن اسعفتنا أفكارنا عرجنا لكتابة قصة قد تكون بداية لعمل روائي عظيم ننافس بها الطيب الصالح في هجرته الشمالية وغازي القصيبي في العصفورية . . ولا اخفي عليك ماردي حبي لرسم لوحة تسر الناظرين . 
سكت المارد لحظة ، ثم حيا صاحبه على روحه الطموحة في منافسة الكبار ومجاراتهم . . لكنه أبدى معارضته على محاولته تنويع انتاجه لأن ابداعه في مجال يأتي على حساب المجال الآخر ، لذلك فالتخصص أفضل لأنه أساس النجاح ، ويجب أولاً أن تعرف أين تجد نفسك . . في الشعر أم في القصة أو الرواية أو الرسم او ماتميل اليه وتهواه . 
لابد قبل كل شيء أن تعرف ذلك حتى تركز على الجانب الذي تشعر انه يجذبك أكثر من غيره وباستطاعتك الابداع به إلى أبعد حد ، ولا مانع بعد ذلك أن تأخذ من غيره ما تيسر لك ولكن لن تجاري به نبوغك الرئيسي ومهما بلغت سيظل انتاجك به فرع من أصل . 
ثم استطرد المارد : سأضرب لك مثلاً يؤكد ما ذهبت إليه .  العقاد . . الكاتب والمفكر الكبير الذي لا تزال أعماله الأدبية تعيش بيننا كما لو أنه حياً يرزق ، كتب الشعر وله عدة مجموعات شعرية ولكن موهبته النثرية فاقت وطغت على موهبته الشعرية لذلك اشتهر كاتبا أكثر من شهرته كشاعر . . ولا يمكن أن تقارن شعره بشعر أحمد شوقي ، مثلا وقد يكون هناك قراء كثيرون لا يعرفون أن العقاد شاعر ولكنهم يعرفون انه آديب اثري مكتبة الأدب العربي بنوادر مؤلفاته ولأن الأعمال الأدبية النثرية متقاربة ويمكن أن تضم في حقل واحد فقد ابدع في المقالة ومع ذلك ابدع في كتابة الرواية أما عندما ابتعد قليلا وكتب الشعر فلم يبدع مثلما أبدع في النثر لذلك فشعره أقل بدرجات ابداعية كثيرة من نثره . .
 وغير العقاد الكثير من المبدعين خاضوا أكثر من تجرية ولم يتألقوا إلا في واحدة منها .
 ـ إني انصحك يا صديقي بتحديد هويتك الابداعية مبكراً . . ولن يأتي ذلك إلا بتكريس جهدك الفكري وأرثك الثقافي وحسك الابداعي في المجال الذي يمكنك أن تحقق به ذاتك بثقة تغنيك عن اللهث وراء ما لا تستطيع ان تجاري به غيرك وبقناعة وإيمان يصرفاتك عن غيره من المجالات لمن هم اقرب منك إليها . . سأختصر عليك كل هذا الكلام الطويل في مثل شعبي الأجدادك يقول : « من أكل بالثنتين غص » واني والله اخشى عليك من غصة « لا مياه النيل ترويها ولا أنهار دجلة » . 
- يضحك ، حسناً أيها المارد الحكيم ، سأقتنع خوفاً من الغصة التي حذرتني منها لو اني أكلت بكلتا يدي خاصة وانه سبق وان غصصت غصة كادت تؤدي بحياتي .
 إذن سأكتفي بواحدة علها تشبع جوعي ، وتسد رمقي . . ولكن يا ترى ماذا تريد ان تختار .
المارد : أيهما أقرب إلى نفسك وأسهلها لي لكي اتقنها اتقانا يرضي غروري بقدرتي . 
يرد صاحبه : لتكن القصيدة اولاً لأني أرى في نفسي شاعر أكثر من رؤيتي فيها أي شيء آخر .
 المادر : هل أنت متأكد ؟
صاحبه : نعم . . نعم . . يا ماردي وسأعطيك مفتاح القصيدة ، وما عليك سوى تشغيلها وتسخينها والاتجاه بها ايما اتجاه تريد وان كنت أتمنى أن تتجه بها إلى تلك التي تلت معاليق قلبي . . وغابت ، فوآسفاه على قلب تلت معاليقه <<وآه على حبي اللي كان » . 
المارد : « سلامتك من الآه » اعطني مفتاح قصيدتك فقد تأثرت كثيراً مما تعانيه . . عجّل علي بالمفتاح واترك عنك الباقي فوالله لأجعلها عبرة لمن يعتبر من بنات جنسها في حياتها . . وبعد مماتها . 
-  خذ يا ماردي العزيز : « سريا قلم واكتب . . » وبسرعة يقاطعه المارد : لا تسير أيها القلم على أثر أقلام سارت قبلك . . ثم التفت إلى صاحبه وقال : انني سمعت منك عشرات القصائد تفتتح بهذه العبارة التي استهلكها الزمن واعادتها بهذه الفترة الزمنية التي نعيشها انتهاك صريح لمسمى الابداع ومثلها الافتتاحية التي تقول « يا وجودي وجد من راح في يدها. . »
 - احترم نفسك أيها المارد وكف عن الاستهزاء بتوجدات اجدادي ولسنا الآن بوقت سخرية . . إننا بلحظة ابداعية يلزم علينا تقديرها واقتناص فرصة تواجدها معنا في هذا المكان الموحش قبل ان تفلت منا فنخسرها ونظل في انتظار قدومها الذي لا نعلمه . 
المارد : صدقت يا صاحبي ولكنه طول العمل يورث المل ولابد من طرده بدغدغة خلايا الضحك ولم أقصد الاستهزاء بتوجدات جدك على جدتك التي لابد وانها احرقت قلبه كما توضحه مطلع القصيدة . . رحمهما الله وجمعهما في دار خير من هذه الدار التي فرقتهم . اللهم آمين . .
 يسكتا برهة من الوقت ويسود المكان صمت طويل يقطعه المارد بسؤال لصاحبه : ليس بالضرورة أن نكتب قصيدة ما دمت غير قادر على فتح طريق جديد لم يسلكه أحد قبلك ولكن بالامكان ان ننسج قصة رومانسية رائعة فقد توفق في صيد ضالتك التي تبحث عنها وهي الخروج بفكرة جديدة . 
ـ فكر صاحبه لحظة ثم أجابه : : أنت على حق . . واهنئك على احساسك الذي يقرأ ما تحويه نفسي ويعلم الله أن ما يهمني هو الخروج بعمل لم يطرقه أحد من قبلي سواء كان ذلك بقصيدة أو بقصة أو حتى بخاطرة قصيرة تعبر عما يخالج فؤادي تجاه سارقة قلبي الغائبة لا جزاها الله عني خيرا بتصرفها اللا انساني . . وما دمت أيها المادر غير مقتنع مثلي بالقصيدة ! ! فان لدي مشروع فكرة أرى خيالي ينسج هيكلها الآن . . ولن استغني عنك في بناءها ونفخ روح الابداع فيها لكي تبقى حية ما بقي الزمن . 

المارد : وما هذا المشروع الذي تريد ان تنفذه يا صديقي ؟ ـ يآخذ  نفسا عميقا ثم يستطرد : هذا المشروع أيها المارد هو «  تعريب قصة روميو وجوليت  ويتم ذلك بنقلها إلى بيئة البادية رمزا لتمسكنا بأصالتنا العريقة !
يرد المارد : انك لا تزال تعيد صياغة أفكار الآخرين بطريقة أخرى ونحن اتفقنا على الخروج بأفكار جديدة وغير مكررة ومحاولتك القصصية هذه تنافي ما اتفقنا عليه عطفا على أنها تشوه حياة البادية أكثر من تشويه المسلسلات البدوية الزائفة التي تعرضها القنوات التلفزيونية .

 - تباً لك أيها المارد العنيد لقد اتعبتني بقتلك كل مشاريعي الأدبية . . انني اريد ان تقرأ حبيبتي اسمي وترى صورتي وأوصل إليها رسالتي . . وكفى بي ذلك . 

المارد : اسمع كلامي الأخير . . ان كان غايتك النشر فقط فأبشر بانك ستكون أضحوكة للجميع وأنا بريء منك ومن اعمالك السخيفة اما ان كان النشر بالنسبة لك وسيلة لغاية تريد تحقيقها فاني لازلت عوينك في تحقيق غايتك . ـ لا لا . . لا اريد منك عوناً ولا مساعدة . . اتركني وشأني وعد انت إلى قمقمك ولو كنت اعلم بخاتمتك معي لما اخرجتك منه . .
وهنا يغضب المارد ويحتدم الجدل بينهما إلى أن يصل إلى تشابك بالايدي وركل بالاقدام كانت الغلبة فيها للمارد . ويتمكن أخيراً من إحكام قبضته على عنق صاحبه ويظل ضاغطاً على أوداجه حتى أصفر وجهه وتنملت اطرافه فيصرخ صرخته الأخيرة .. صرخه الموت ليصحو من نومه مذعوراً من هذا الكابوس وكأن المارد تلبسه فصحى على ولادة فكرة ابداعية .
وهكذا الإبداع يولد من صراعات وخلاجات نفسية.

*النص من مجموعتي الأدبية اللغة الثالثة الصادرة عام 2000م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص من الصحافة

عنوانها جمال خاشقجي "بيني وبين الصحافة قصص ومواقف لا تنسى نوافذ مفتوحة وأبواب مؤصدة  " اولها مع الشاعر طلال الرشيد صاحب الفواصل الجميلة حينما نشر فريقه الصحفي مقالة لي بذكر أسمي الأول فقط "هزاع" وتبين بعد النشر ان الخطأ حقق إثارة ورغبوا ان استمر به واختلفنا وانصفني يرحمه الله بتنويه باسمي كاملاً بالعدد الذي بعده ثم توقف المسار بعد هذا الأختلاف. وليس آخرها إيميل من رئيس تحرير صحيفة الوطن جمال خاشقجي رداً منه يرحمه الله على موضوع بيننا لم يكتمل ، بعد إطلاعه على نماذج من مقالاتي قائلا؛  اهلاً بك "ربما تكون صحفي اختفى بين اوراق العمل الحكومي" وكنت وقتها مديراً في منطقة عسير  ومنها أكتشفت ان هناك معايير تنبع من رغبات وأنتماءات تشبه المتعارف عليها في الصحافة الرياضية ان الكاتب لابد ان يكون له ميول للنادي المفضل لخط الصحيفة.  ولم تمضي أشهر حتى التحقت بصحيفة شمس كاتباً اسبوعياً وانتقلت عملياً الى منطقة جازان وقد واجهت بعض التحفظات الاجتهادية على ما اكتب من ادارتي التي تكبح احياناً إثارة قلمي غير ان الصحيفة غربت وهي في أوج توهجها. وبقيت كلمة خاشقجي تضغط ع

وداعا حبيبتي كثيرة الكركرة

منذ سنين . .  وأنا أحاول . . وأحاول . . وأحاول إلى أن نجحت في إحدى محاولاتي وتخلصت ممن تعاطيت الحب معها مره عابثاً فأسرتني بحبها حتى أدمنته وجري في عروقي مجرى الدم .  -  بين العقل والقلب خصام دائم ينتهي من حيث يبتدئ ليظل أخيراً كمن يدور في حلقة مفرغة تشكل مداراً لحب أحدهما يرفضه . والآخر يخفق له . والميدان نفس لا تطيق الخصام فكيف بها وقد أصبحت ميداناً له . أما أنا فقد وقفت أمام ما أرى طوال السنين الماضية موقف العاجز عن حسم الخلاف بين عقله وقلبه .  وهكذا يبقى الخصام الذي يصل أحياناً حد التصادم قائماً لا يكل ولا يمل . . ولا يأس معه ولا أمل . وكنت أردد دائماً : أعظم الجهاد جهاد النفس وأعظم الانتصار . . الانتصار عليها . فتحتج النفس وترفع صوتها : ما ذنبي وما خطيئتي إلا يكفيني مصيبة أن كنت ميداناً لمجانينك المتعنترين لا يتنازل احدهما عن الآخر أو ينتصر فأرتاح وإلى متى ؟ أظل على هذا القلق الذي لا يطاق . .  أبعد كل ذلك أجدك تعظم جهادي والانتصار علي ؟  أرد : لا يا نفسي أنا لا أقصدك بذاتك أنا اقصد أولئك الذين أقلقوك . . وأرهقوك ونقلوا همك إلي ولكن في النهاية هم جزء منك ومما تحتوين

ما هذا الحب ؟

الأبل من المخلوقات التي امرنا الله ان نتفكر بها فهي مدهشة من كل ابعاد تكوينها بدناً وشعوراً وتملك جاذبية لا متناهية تحن لصاحبها ولمواطن رعيها وتشتاق وتتألم وتسيل مدامعها ٠ سأروي قصة من مزرعتنا بعد ان استوطنتها أبلنا حيث تغيرت  وبلا مبالغة اصبح فيها حيوية لم نعهدها قبلها . ومن الطرائف ان العمالة اخذوا تدريجياً يهتمون بالأبل على حساب اهمال النخيل ولا حظنا ذلك وحاولنا ان نكافح هذا الأهتمام ونتابع معهم التركيز على مهامهم الزراعية ولكن دون جدوى وحينما نضغط عليهم صاروا يهتمون من الزرع ما فيه فائدة للأبل ! وخلال السنين تغيرت جنسيات العمالة ولم يتغير الميول الطاغي للأبل وكلما جاء عامل جديد حاولنا ان ندمجه في عمله الزراعي ثم سرعان ما يجرفه تيار الأبل كأنه نسناس بارد يتخلخل بين سموم يوم قائض . قبل مغيب كل يوم يروّح الراعي بالأبل فيهب عمالة المزرعة متسابقين على استقبالها وخدمتها في متعة وحبور تاركين اعمالهم الرئيسية  وحينما نعيش اللحظة نعذرهم ونتفاعل معهم معتبرين ذلك مكافأة نهاية عمل اليوم. - سبحان الله ، ما هذا السحر ؟

الواتس قتل شاباً وطلق إمرأة

الواتسآب قتل شاباً وطلق إمرأة لا احب الانضمام كثيراً  الى مجموعات الواتسآب الا ما تقتضيه الضرورة ولكني اقرأ وأسمع عن قصص خلافات يتسببها بين الاشخاص واغلبها بسبب سوء فهم .  لأن الواتس يحمل حواراً كتابياً بطيئاً وجامداً  بدون مشاعر او لغة جسد بما فيها العيون لذلك دائماً يحتاج الى ايضاح وتصحيح او تبرير احياناً او اعتذار ، فضلاً على انه معرض للأخطاء المطبعية القاتلة. وبقدر ما هو نعمة في تيسيره التواصل بين الناس الا انه قد يتحول الى نقمة على المجتمع حينما يصبح مطية سهلة وسريعة لنشر الاكاذيب والاشاعات المحسنة ب "كما وصلني" ولان السبق ميزة اخبارية فقد يتسرع المرسل في نقل المحتوى قبل ان يصل من غيره  دون التحقق من صحته . لذلك فهو من اكثر الوسائل حاجة الى نشر ثقافة الوعي بكيفية التعامل من خلاله وتقنين استخدامه.  فهو مثل الحاجز الزجاجي برشة ماء او بخة عطر تغبش الرؤية وتضطرب المشاعر فتختلف اتجاهات الحوار وتتصادم النفوس او تنكسر الخواطر.   فبسببه ثار مراهق على قريبه وقتله لأنه حذفه من القروب وبسببه ايضاً طلق زوج زوجته على أثر غلطة مطبعية اساءت له امام قروب العائلة ولم ت

الناطق الشعبي .

حوار مع الامثال الشعبية .  المثل الشعبي اصغر ابناء الثقافة العامية والأكثر حضوراً والأقرب نطقاً على ألسنتنا من بقية افراد أسرته العريقة مثل الشعر او القصة او الحكاية فما ان يحاصرك موقف او تريد ان تحاصر موضوعاً او تحتج على أمر او تؤيده إلا وتستنجد به فيلبي نجدتك ويقفز من ذاكرتك على لسانك ناطقاً بكلام مفوّه يختصر عليك حسم القضية التي تشغلك.  وهكذا توارثنا شدّة أثره ورفعة قدرة حتى اصبح عند كثير من الناس من الكلام المسلم به الذي لا يقبل النقاش ولا يجب ان يختلف عليه اثنين وقد دفعني حبي له واعجابي به الى استنطاقه ومحاورته وقد كان لي ما أردت.  فقد كنت اتصفح ذات إطلاع مجلد تراثي يحوى في أعماق اوراقه الصفراء عالم الأمثال الشعبية ففتحته وتجولت به وشممت في داخله رائحة البيوت الطينية ورأيت بيوت الشعر منصوبة على ضفاف رياض الربيع واستمعت إلى أهازيج البحر وحكايات البحارة حيث أن لكل بيئة اجتماعية أمثالها الخاصة . إنه عالم مثير وممتع في آن أرجعني إلى الماضي البعيد بكافة تفاصيله غير أني لاحظت في هذا العالم أمثال بعضها يتعارض مع تعاليم الدين وبعضها تخلف عن الركب فتجاوزه الزمن وثالث كأنه ينطق بلغ

قصة حب بين اللهجة واللغة

اللغة الثالثة  ثمة خط فاصل بين ثقافة البيت ، وتثقيف المدرسة. البيت بثقافتة وآدابه الشعبية والمدرسة بأدبها العربي الفصيح. كأنهما . . جديان متناطحان والتلميذ الذي نشأ في بيئة شعبية ويدرس في مدرسة تقدم الأدب العربي يقف على هذ الخط الذي تتناحر القوتين من أجله. في أحد الصباحات المدرسية الندية سأل المعلم تلامذته الصغار :  من منكم يحفظ أنشودة ؟  فيقفز تلميذ في آخر الفصل ويرفع يده قائلاً :  - أنا . . يا استاذ  الأستاذ : تفضل . التلميذ بنشوة طفولية :  الذيب ما له قذلة هلهليه                يا حظ من له مرقد في حشى الذيب ! تعصف بالفصل موجه ضحك ، ، وتتعالى قهقهات الصغار . . ويحاول المعلم ان يمسك بعنان الحصة قبل أن تفلت من يدة ويأمرهم بالسكوت ، ليسأل التلميذ  - ما معنى هذا البيت ؟  التلاميذ وفي صدورهم يحتبس ما بقي من ضحك :  المعنى في بطن الشاعر . - يجيب التلميذ : هذا البيت يا أستاذ لطفل آخر من توفي من أولاد رجل عاشق  وكان أولاده أشد عشقاً منه ، لدرجة أنهم ماتوا شهداء في بحر الهوى ، فلما ولد له هذا الطفل الشاعر أوصى أمه على أن الا تريه النساء حتى لا يتعلق بهن ويلاق