حوار مع الامثال الشعبية .
المثل الشعبي اصغر ابناء الثقافة العامية والأكثر حضوراً والأقرب نطقاً على ألسنتنا من بقية افراد أسرته العريقة مثل الشعر او القصة او الحكاية فما ان يحاصرك موقف او تريد ان تحاصر موضوعاً او تحتج على أمر او تؤيده إلا وتستنجد به فيلبي نجدتك ويقفز من ذاكرتك على لسانك ناطقاً بكلام مفوّه يختصر عليك حسم القضية التي تشغلك.
وهكذا توارثنا شدّة أثره ورفعة قدرة حتى اصبح عند كثير من الناس من الكلام المسلم به الذي لا يقبل النقاش ولا يجب ان يختلف عليه اثنين وقد دفعني حبي له واعجابي به الى استنطاقه ومحاورته وقد كان لي ما أردت.
فقد كنت اتصفح ذات إطلاع مجلد تراثي يحوى في أعماق اوراقه الصفراء عالم الأمثال الشعبية ففتحته وتجولت به وشممت في داخله رائحة البيوت الطينية ورأيت بيوت الشعر منصوبة على ضفاف رياض الربيع واستمعت إلى أهازيج البحر وحكايات البحارة حيث أن لكل بيئة اجتماعية أمثالها الخاصة . إنه عالم مثير وممتع في آن أرجعني إلى الماضي البعيد بكافة تفاصيله غير أني لاحظت في هذا العالم أمثال بعضها يتعارض مع تعاليم الدين وبعضها تخلف عن الركب فتجاوزه الزمن وثالث كأنه ينطق بلغة لا أفهمها .
وهنا توقفت .
وحاولت أن أراجعه وأفرز ما يتناسب مع ظروف زمني ويعزز ثقافتي وأحذف ما لا يناسبني وبينما أنا أحاول وأهم أن ابدأ في مهمتي وقبل أن أشرع لاحظت اضطراباً وتهيجاً في جموع الأمثال الشعبية تجاه ما هممت به حتى خيل لي بالأوراق الصفراء تصطفق اصطفاق الموج في يوم عاصف.
صبرت قليلاً حتى هدأت عاصفة الاعتراض الشعبي على قراري الإصلاحي ورجوت منهم التريث وطلبت من عقلائهم التفاوض وأن يوكلوا من يختارونه متحدثاً شعبياً عنهم فوافقوا على ذلك وبعد مداولات داخلية اتفقوا على مرشح خرج لي من بين ثنايا المجلد الأثري وكان يعتمر عمامة يكاد ذيلها يلامس الثرى ويلبس قميصاً بألوان أزهار الربيع وإزاراً بلون الدم راق لي منظره فوضعت المجلد جانباً استعداداً لمناقشته بموضوعية محايدة ولكن ما أن اقترب مني حتى ثار غاضباً . . وأرعد وأزيد وانتفخت أوداجه واحمرت عيناه وكان فيما يبدو مشحوناً بمشاعر الجماهير الغاضبة التي خلفه ثم صاح بي قائلاً:
من أنت حتى تنتقد كلامي وتشكك بمصداقيتي وتختبر موضوعيتي التي تناقلتها الأجيال عبر الأزمان الغابرة .
• أرد عليه مهلاً أيها المثل الشعبي القدير أتمنى أن تسمح لي بفتح باب نقاش هادئ نستعرض خلاله مسيرتك الميمونة ما يوافقنا منها . . وما يخالف قناعتنا .
• يعيد :
أي هدوء تريده مني وأنت تحاول إشعال نار الفتنة في عالمي وتصنفنا إلى أصناف متعددة .
• أرد : تصنيفي ليس إشعال فتنة كما تتصور . ولكنني أريد أن أعيد قراءة أدبك الرشيق وأحاول أن أفهمه والظروف المحيطة به حتى أعرفك جيداً وقد أشارك في مسيرة تطويرك .
يعيد : كيف تريد أن تعرفني الآن بعدما ورثتني من أبيك وأمك . أي معرفة متأخرة هذه ثم من أنت حتى تطورني .
• أرد عليه : نعم عرفتك حفظاً وتلقيناً . . وأريد أن أعرفك فهماً وتحليلاً لكي نجعلك متوائماً مع مرحلتنا الزمنية الراهنة .
يعيد : معنى ذلك أنك لست مقتنعاً بمقولاتي الشهيرة التي جاءت وليدة لتجارب رجال سبقوك في الحياة .
أرد : ولكن أنت لا تريدني أن أقتنع بحريتي المطلقة وفق ما يمليه علي وعيي وعقلي أنت تريدني أن أصدقك لمجرد أنك مثل شعبي ورثتك من أجدادي .
• أحاول أن أفهمه : هذا ليس مبرراً لأنهم قد أطلقوا لساقيك الريح رهن موقف خاص بهم قد تتدخل عواطفهم في أطلاقك في الإتجاه الذي يريدون .
يرد مرتبكاً : لا . لا . . أنت هنا ظلمتني وأجحفت في حقي حينما ربطتني بالأهواء الشخصية .
• ليس وحدها الأهواء الشخصية إن شئت تسميتها ولكنها
أيضاً ظروف الموقف وظروف الحياة تختلف من زمن إلى آخر فما قد يناسب أجدادنا قد لا يناسب حياتنا وما يناسبنا قد لا يناسب حياة أبنائنا ثم أحفادنا .
مثلاً ايها المخلوق التراثي ولا تغضب مني انت " مسوي زحمة والشارع فاضي "
يستفسر : ما فهمت ؟!
هذا مثل جديد من إنتاج جيل الشباب يتداولونه وحينما بحثت في مخزونك وجدت لديك مثلاً مطابقاً في المعني ولكنه غير لائق لفظياً !
يرد بقهقه : لا أنكر أن لكل زمن أمثاله التي تصيغها ظروفه وثقافة أهله.
• أرد عليه : هذه نقطة كسبتها ، النقطة الأخرى التي تشوش محاولة فهمي لك ، هي أنك أحيانا تقترب قاب قوسين أو أدنى من التناقض .
يرد : لا أعتقد .
• أرد عليه : خذ مثلاً : أنت تقول ذات موقف " مع الخيل يا شقرا " الذي تضربه على الرجل الإمعة ثم تقول في مثل آخر " خلك مع أول الرجال لو على حلق اللحى " حينما كانت اللحى في عز زمنها الذهبي.
- يتلعثم ثم يجيب : هذا يا أخي ليس تناقض بالمعنى الدقيق هذا نوع من التشابه اللفظي . . مثل مع الخيل يضرب على الإمعة ومثل خلك مع أول الرجال لا يناقضه ولكنه يبالغ في تصوير أهمية التسابق على الصفوف الأولى في أمور تقل أهميتها كلما تأخر الوقت حتى تصل حد تفويت الفرصة . . ومن هذا التصوير المبالغ به للمثل حصل الشبه والالتباس غير المقصود .
و هذا مكسب آخر : وهي أنك تحتاج أحياناً إلى تفسير وأحياناً أيضاً إلى تغيير .
يرد : أوافقك في حاجتي نادراً إلى تفسير ولكن لما التغيير ؟
• أجيب : التغيير يجب أن يطول المثل السابق لان الموضه اوشكت ان تقضي على اللحى والاشناب ومثلك هذا لا يستسيغه جيل اليوم .
- يصمت قليلا كأنه يراجع نفسه ثم يعترف على مضض :
قد يكون كلامك صحيحاً ولكن تبقى النسخة الأصلية حق من حقوقي ولا يمنع أن تطوروا وتغيروا مع مايتفق مع متغيرات زمنكم الذي تعيشونه .
• أنتهز الفرصة وأواصل : طالما أنك سمحت لي بالتغيير أيها المثل المتفهم فإن هناك مثل أكل عليه الزمن وشرب دون أن تتفحصه وتتحقق من صلاحيته الزمنيه كقولك :
« الشيوخ أبخص » وأيضاً هناك تغييراً كبيراً طرأ على التربية ولم تتطرق له وتركته على بناءه القديم رغم تهالكه . يسأل : مثل ماذا ؟ ؟
• أجيب : مثل قولك " البنت على دين أمها "
البنت اليوم لم تعد كذلك بل على دين المحتوى الإعلامي الذي تنهل منه ان كان خيراً فخير وان كان شراً فشر.
يرد : لا ينطبق هذا المثل على البنت بل على الجميع صغاراً وكباراً فقد اصبح الإعلام هو المؤثر في الثقافة ويكاد يكون المسير في السلوك وقد قلت في مثل قديم :
" كل إناء بما فيه ينضح"
اعلق : صدقت ايها المثل بدأت تستوعب وتتجاوب مع المتغيرات العصرية.
- يرد : اكيد اكيد اذا لم تساير زمانك تجاوزت " بلغتكم " وقد قلت في هذا المجال ايضاً في مثل سابق " ان ما طاعك السوق ولى طعه"
يتوقف الحوار ونتوادع.
ثم أخذت أطبطب على ظهره تشجيعاً له وأعدته إلى المجلد التراثي بعدما اتفقنا على أنه :ليست كل الأمثال التي طرحتها هنا هي التي تحتاج إلى تغيير فقط . بل أن هناك الكثير والكثير التي تحتاج على الأقل إلى إعادة صياغة بما يتفق مع المتغيرات الاجتماعية والثقافية والحياتية بشكل عام وذلك حتى لا تنقرض #الأمثال_الشعبية ويتوقف التداول بها ثقافياً وتصبح مجرد أساطير شعبية في مجلدات التراث.
تعليقات
إرسال تعليق