الأحلام . . لا تموت
بعد سنين من رحيله . . وجدت نفسي تنساق لرغبة داخلية ملحة على أثرها أطاعتها خطواتي المرتبكة فمشت بي حتى أوقفتني على مشارف قبر والدي ( محمد بن نقاء ) يرحمه الله .فتقدمت منه قليلاً وبدأت السلام ثم جلست بعد خانتني أعصابي وتحولت فجأة إلى أسمال باليه ولم أستطع لحظتها أن أتحكم في مشاعري ولا كيف أعيش أحاسيسي ولكني تنبهت على ضجة كثيفة اقتحمت فضاء روحي الضيق . . فزلزلتني حتى كادت أن تغيبني عن الوعي . . أو أن الوعي قد غاب مني فعلاً لا أعلم ؟ الذي أعلمه أني شعرت أنني في مواجهه حية مع الموت وعالم القبور . .
كأني أرى الموت أمامي . . يقترب مني . . ولم يبقى بينه وبيني سوى خطوات معدودة . . لحظات محدودة ، يقترب مني أكثر . . وأكثر حتى يأست من الحياة فأقبلت عليه . . مجبراً أخاك لا بطل فعانقته كأنه شخص ثقيل لا تريد أن تعرفه فلما تأكدت أنه اعرفك . . أقبلت عليه كأنك لم تحاول أن تصد عنه ؟
ومقدار لحظات العناق تخرج الروح من ضيق الجسد إلى الفضاء الرحب ويودع ذلك الجسد . . ضيق اللحود .
انتبهت كما ينتبه النائم حين صحوته . . و « الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه انتبهت وآخر صورة في شاشة وعيي الجديد منظر حياتي التي فنت تلك الحياة التي كنت أراها ثمينة أركض خلف أحلامها وأنهك أقدامي في تجاوز حواجزها حتى أصل مبتغاي . كل ذلك وأتحسر على ما بذلته لأجلها . . أرى إنها الآن لا تساوي شيئا يستحق الاهتمام . . إنها رخيصة وليست ثمينة كما كنت أرى . . با لهول الخديعة . . كيف الذي كنت أعتقد أنه غدير زلال إكتشفت أنه أشهب اللال .
اكتشاف متأخر لا ينفع الآن . . ولا يجدي .
أعود لأبي محاولاً أن أستلهم من سيرته مايعينني على تجاوز هذا المنعطف الخطر جئته وأنا أمني نفسي بأن لوطالت به السنين ليعرف عني ما يسره من تحقق أحلام لم تكتمل بغيابه عني . ، جئته كأنني أريد أن أخبره . . فوجدت نفسي في عالم آخر أعاد إلى ذهني وصاياه التي لم تكن الدنيا وأحلامها على قائمه اهتمامه . . | بل كان يوصينا بالعمل لما بعد الموت . . وكان يحثنا على تحقيق الأحلام الخالدة التي لا تموت . . بل يحيا بها طالبها بعد أن يموت . . تلك الأحلام هي التي يجب أن يسعى لها ويبذل في تحقيقها الغالي والنفيس لا أحلام الدنيا الزائفة والرخيصة . .
أنني في تلك الحالة أمام موازين أخرى على النقيض من موازين الحياة الدنيا . . ما كنت أراه سابقاً أرى عكسه الآن . . أفيق من صدمه انقلاب الموازين على واقعي الحقيقي وأحاول أتذكر ما قد ينقذني . ما يمكن أن يرجح كفة الميزان ويأقلمني مع الواقع الجديد الذي كنت أراه بالخيال .
وقبل أن أتذكر . . وأن أسترجع . .
يعرض أمامي خير عملي . . وشرّه . . حلوه . . ومرّه .
تعترف يدي اليسرى بما لا أريد واليمني بما أريد . . والقدمين مثلهما . . وكذلك العينين وآه من العيون ونظراتهما . . والآذان واللسان ذلك الذي أثق به في حفظ أسراري أطلق لسوالفه العنان وفضح تفاصيل الاعيبي . . أكاذيبي
" كأنه طفل صغيرباح لأبيه ما يفعله ، أخوه الذي يكبره فترة غيابه . لم يبقى شيئاً لم يقله حتى الذي كنت أخجل من ذكره
لقد تجردت مما كنت أتستربه . . كل شيء واضح ومكشوف . .
حسناتي هنا . . وسيئاتي هناك كأنهما خصمين بل هما كذلك ولست قاضياً ولكني مسئول عن أفعالهما وسأجازي بالحسنات إحسانا . وبالسيئات . . أرجو من الله أن تكون غفرانا . وأنا أحاول أن أقارن بين قوتيهما أيهما الغالب وأيهما المغلوب نبئت بأن ما أراه أمامي من حسنات ما هي إلا قبل التصفية قبل أن يخصم منها قيمه ماتمتعت به في دنياي من بصر . . وبصيرة وعافيه . . وأنعام لا تحصى . كيف سأدفع لن يكفي رصيدي من الحسنات فكيف بالسيئات أين أخوتي ؟ أين أقربائي ؟ أين أصدقائي ؟ أين علاقاتي ؟ من كنت أدخرهم وقت حاجتي . وقت شدتي . لا أحد معي إلا عملي المتواضع ورحمة الله الواسعة وحينها عرفت أن الفرصة الضائعة هي التي لم أستثمرها في طاعة الله وذكره ،
أحاول أن أخرج من حالتي البرزخية فيعرض على شاشتي السينمائيه مقطع رحيل والدتي ( أم سعود ) يرحمها الله ، لقد تنازلت عن كثير من أحلام دنياها بعد رحيل أبي ، واهتمت أكثر بأحلام ما بعد الموت لأنها ترى أنه لم يبقى لها في الحياة ما يستحقي الانتظار فعندما تفقد رفيق دربك تفقد نصف حياتك الأجمل ، ويبقى معك نصفها الباهت المغبر أن لم أبالغ لقد شعرت وأنا أرافقها في سيارة نقل الموتى إلى المقبرة أنني أزفها لوالدي الذي سبقها إلى الموت بسنوات . . وإن الكفن الأبيض الذي يلفها ما هو إلا فستان زفاف !
وأن أطفالها الأربعة الذين فقدتهم في شبابها ينتظرونها معه . كانهم تباطؤ غيابها عنهم في الحياة الفانية فاستبشروا بقدومها اليهم في الحياة الباقية .
لقد كانت أحلامهما في الدنيا متشابهه . . وأعمالهما متقاربة وأرجو من الله أن يتوج سعيهما بالقبول والمغفرة . . وأن يجمعهما في دار رحمته إنه سميع مجيب .ومرة أخرى . .
أحاول أن استجمع قواي المنهارة وأن أبعث في جسدي المتهالك كهرباء الحياة فأنجح في إعادة التشغيل ! بالتفاؤل وتذكر ملذات الحياة وزخرفها وشيئاً فشيئاً حتى استطعت أن اسحب خطواتي بتثاقل واخرج من المقبرة وأبتعد قليلاً عن عالم البرزخ وأقترب أكثر . . وأكثر من حياتي الحالمة التي أحاول بعد تلك المؤثرات التي تعرضت لها بعد رحيل الوالدين أن اعتدل في تثبيت ميزان الأحلام في الحياتين فأحلام الدنيا يجب أن تكون نواة لأحلام الآخرة . . وأحلام الآخرة يجب أن تكون امتداداً لأحلام الدنيا . .
والحذر كل الحذر من التضاد يجب أن يأخذ الإنسان نصيبه من الاثنتين دون أن تطغى حياة على أخرى . .
فأحلام الدنيا لا تشيب لأنها تبعث فينا حب الحياة . . وطول الأمل حتى في اللحظات الأخيرة من العمر إلى أن يفاجئك الموت فتكتشف حقيقتها .
أما أحلام الآخرة فأنها أحلام باقية لا تموت . . بل أننا نحياها بعد أن نموت أنها أحلام خالدة تستحق منا الركض خلفها . . والتعلق بها . . والعمل لها . وأسمى الأحلام أن يجمعك الله بمن تحب في الفردوس الأعلى وبئس لامرئ يظهر الشيب في شعره ولا يسعى لتحقيق أحلامه لما بعد الرحيل .
تعليقات
إرسال تعليق